محاضرات في مادة القانون الجنائي للأعمال


محاضرات في مادة القانون الجنائي للأعمال


مقدمة عامة:

لقد وقع الاهتمام حديثا بجرائم ترتكب في إطار ممارسة أنشطة اقتصادية، ويعود الفضل في إثارة الانتباه إلى ذلك للأستاذ الأمريكي Sutherland في محاضرة له سنة 1939 وكتابه سنة 1949 حول نفس الموضوع: جرائم ذوي الياقات البيضاء White collar crimes.

فقد وجه الاهتمام إلى إجرام يرتكب من قبل أشخاص لهم مكانة اجتماعية واقتصادية عالية في معرض ممارستهم لأنشطتهم المهنية، وذلك بعد أن كان علم الإجرام التقليدي يركز على المجرم الفقير أو المهمش يرتكب جرائم مالية أحيانا بسيطة ويجد نفسه بسبب ذلك في السجن.

وقد تعمقت دراسات هذا النوع من الإجرام من زاوية علم الإجرام والاقتصاد والقانون خاصة منذ السبعينات من القرن الماضي، وذلك في اتجاه يدفع إلى استقلاليته عن الإجرام العادي وجرائم الأموال التقليدية الواردة في المدونات الجنائية، لكن من الناحية القانونية وفي غياب تسمية رسمية بل وغياب عنوان خاص بهذه الجرائم في جل المدونات الجنائية مثل المجموعة الجنائية المغربية، وكون الجرائم التي تكون هذه الفئة توجد عادة في نصوص خاصة متفرقة خارج المجموعات الجنائية كما هو الشأن في المغرب، فقد اختلف الفقه كثيرا حول تسمية ومضمون هذا الفرع القانوني الحديث الذي يراد له أن يكون مستقلا عن القسم الخاص الوارد في المدونات الجنائية.

1- اختلاف حول التسمية:

من التسميات المتداولة في هذا الإطار نذكر:

- القانون الجنائي للأعمال: وهي الأكثر استعمالا اليوم، وقد سبق الفقه التجاري أن مهد الطريق لانتشارها بتكريسه مادة قانون الأعمال ويعد القانون التجاري نواته الأصلية، وبالتالي فالقانون الجنائي للأعمال يكمل ذلك، إذ يركز على الإجرام الذي يرتكب في إطار المقاولة سيما تأسيس وإدارة الشركات أو إدارة الأنشطة الاقتصادية (الأعمال) بصفة عامة.

- القانون الجنائي الاقتصادي: وهو يكمل القانون الاقتصادي وما يضم من مقتضيات تهم التنظيم الاقتصادي، سيما الانتاج والتوزيع والاستهلاك، فهذه التسمية تركز على الطبيعة الاقتصادية لهذه الجرائم.

- القانون الجنائي الاقتصادي والمالي: وهو يوسع نطاق التسمية السابقة لتشمل أيضا الجرائم المالية سيما ما يتعلق بالصرف-الجمارك...

2- اختلاف حول تحديد مضمونه:

يختلف الفقه في تحديد مضمون هذا القانون بين التوسع والتضييق.

- مضمون واسع: يمكن ربط هذا المضمون بالجرائم التي تحمي النظام العام الاقتصادي، وهذا يرتبط بمدى تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية بهدف حماية مصالح أساسية اقتصادية ومالية بعضها تقليدي مثل ما يحمي العملة والصرف والجمارك، ومنها ما هو حديث مرتبط بمظاهر تدخل الدولة الحديث في الحياة الاقتصادية كحماية المنافسة وحرية الأسعار أي حماية مبادئ النظام الاقتصادي وحسن سير مؤسساته.

وجرائم مالية أخرى مثل التأمين – البنوك – البورصة، وجرائم الشركات وما يرتكب خاصة عند تأسيسها أو إدارتها.

ويمكن التوسع أكثر بتمديد نطاقه إلى جرائم تحمي مصالح اجتماعية أساسية تحتك بها المقاولة، بمناسبة ممارسة نشاطها الاقتصادي، نذكر خاصة مصلحة المستهلكين والجرائم المقررة لحمايتها، ويمكن أن نضيف من هذه الزاوية مصلحة العمال والجرائم المقررة لحمايتها.

- مضمون ضيق: يمكن أن ننطلق في تحديد مضمون القانون الجنائي للأعمال من المقاولةِ, فتكون الجرائم المكونة للقانون الجنائي للأعمال هي التي ترتكب في إطار المقاولة ولها علاقة بنشاطها الاقتصادي. فتأسيس شركة وهمية للقيام بالنصب تدخل في إطار جريمة النصب الواردة في المجموعة الجنائية وليس ضمن القانون الجنائي للأعمال.

فهذا المعيار يمكننا من معرفة متى تطبق جرائم تقليدية عامة واردة في المجموعة الجنائية خاصة النصب وخيانة الأمانة، أو واردة في مدونة التجارة مثل جريمة الشيك بدون مؤونة في إطار إجرام الأعمال أيضا.

3- الجرائم المكونة للقانون الجنائي للأعمال:

إذا كانت المجموعة الجنائية تضم بعض الجرائم القابلة للتطبيق في مجال الأعمال كما سبق بيانه، وكذا بعض ما تضمنته مدونة التجارة مثل جريمة الشيك بدون مؤونة، فإن جل الجرائم المرتبطة بالأعمال أو الاقتصاد والمكونة للقانون الجنائي للأعمال أو القانون الجنائي الاقتصادي والمالي توجد في نصوص خاصة متفرقة خارج المجموعة الجنائية: فالجرائم المتعلقة بتأسيس وإدارة الشركات توجد في قوانين الشركات، والجرائم المتعلقة بالنظام الاقتصادي توجد أساسا في قانون حرية الأسعار والمنافسة، والجرائم المتعلقة بالغش في البضائع توجد في قانون زجر الغش في البضائع، وحماية العلامة التجارية والصناعية توجد في قانون حماية الملكية الصناعية، وجريمة الاشهار الكاذب أو المضلل توجد في قانون حماية المستهلك الذي يضم أيضا جرائم مقررة لحماية المستهلك، وهكذا فنحن أمام نصوص خاصة وكثيرا ما توجد لها نصوص تنظيمية تطبيقية تنمو خارج المجموعة الجنائية مما سهل شكلا الحديث عن فرع جنائي مستقل.

4- الملامح العامة لجرائم الأعمال:

بالرغم من كون الجرائم المكونة للقانون الجنائي للأعمال توجد في نصوص متفرقة يصعب معه أحيانا الحديث عن فئة منسجمة قائمة الذات تستحق الاستقلال عن القسم الخاص من المجموعة الجنائية، فإن هناك بعض الملامح والخصائص التي تجمع بينها رغم تفرقها شكلا، نرى أن نقف عند أهمها فيما يلي:

+ جرائم مرتبطة بالنظام الاقتصادي المتبع في الدولة: أي ما إذا كان ليبراليا أو موجها أو اشتراكيا، فسياسة الدولة الاقتصادية والمالية تلعب دورا كبيرا في تحديد هذه الجرائم، ومن هذه الزاوية نلاحظ أهمية ارتباط هذا الإجرام بالمقاولة الخاصة أي اقتصاد السوق، فبالرغم من أن الإجرام الاقتصادي بمفهومه الواسع يمكن أن يرتكب في إطار المقاولات الاقتصادية العامة أو المؤسسات المالية العامة كتحويل أموالها، فالضحية هنا تكون الدولة بفعل موظفيها أو من في حكمهم وهو ما يدخل في إطار جرائم الاختلاس أو تبديد أموال عمومية الواردة في المجموعة الجنائية ولها مسطرة خاصة (المحاضرة).

+ إجرام يهدد أو يلحق ضررا بمصالح عامة أساسية: وخاصة مصالح اقتصادية للدولة، سيما في إطار اقتصاد ليبرالي منفتح على الخارج السائد اليوم: فالإخلال بمبادئ النظام الاقتصادي والسير العادي لمؤسساته يحدث ضررا اقتصاديا عاما يصعب تحديده بالمعايير التقليدية، إذ قد يأخذ صورة فقدان الثقة في النظام الاقتصادي للدولة ومؤسساته من قبل المستثمرين والممولين، وفقدان ثقة الجمهور في المعاملات التجارية.

وهو ما يبرر أهمية الجرائم التي تحمي مبدأ المنافسة المشروعة المنصوص عليه في الدستور ومبدأ حرية الأسعار، وذلك بقانون حرية الأسعار والمنافسة، فقد نص الفصل 35 من دستور 2011 على مبدأ حرية المبادرة والمقاولة ومبدأ المنافسة المشروعة ونص الفصل 36 منه على أنه يعاقب القانون على الإخلال بها، يضاف إلى ذلك أهمية الجرائم المتعلقة بتأسيس وإدارة الشركات حماية للشركاء والمستثمرين والادخار، ونزاهة الفعل الاستثماري ومناخ الأعمال وجلب الاستثمارات.

+ إجرام يبحث عن الربح غير المشروع: فهو مرتبط بالأعمال وهذه الأخيرة قاعدتها الأساسية هي السعي إلى الربح، فالربح من العناصر القانونية للشركة، لكن يجب أن لا يكون ذلك على حساب مصالح أخرى.

+ إجرام يرتكب في إطار منافسة وطنية ودولية وتحولات اقتصادية: ومن هذه الزاوية يخشى أن تقوم به شركات قوية بحكم الانخراط في حرية تداول السلع والخدمات، وبالتالي فتح المجال لإجرام ببعد دولي له قدرة كبيرة على تهديد مصالح اقتصادية واجتماعية أساسية للدولة، من بينها خطر الاخلال بالمنافسة أو إغراق السوق بمنتجات مغشوشة أو بأسعار منخفضة جدا.

+ إجرام صعب الاكتشاف: وذلك لقدرة مرتكبيه على تنظيم ارتكاب هذا النوع من الإجرام واستغلال الثغرات القانونية والتنظيمية وقدرتهم على اخفائه قصد الاستمرار في جني مكاسبه واستعانتهم في ذلك باستشارات متخصصين ومهنيين، ثم إن الضحايا المباشرين قلما يدركون ذلك وإن أدركوه لا يبلغون عنه سيما وأنهم متفرقون لا يعرف بعضهم البعض, ثم ليس لهم الوقت والقدرة المالية لعرض الأمر على الجهات المختصة ومواجهة خصم يرونه متفوقا عليهم ماليا وفكريا، من ذلك ضحايا اشهار كاذب أو مضلل عابر للقارات، وضحايا غش تجاري واسع النطاق.

+ صعوبة الرقابة الشاملة على الأنشطة الاقتصادية: يلاحظ أنه يصعب على الجهات المكلف بالرقابة على الأنشطة الاقتصادية والتجارية أن تقوم برقابة مستمرة وشاملة، إذ يتطلب ذلك موارد بشرية ومالية كبيرة، وبالتالي نلاحظ أن اكتشاف هذا النوع من الإجرام يكون عادة بالصدفة في إطار حملات موسمية، أو بالنظر لما ترتبت عنه من أضرار جسيمة لعدد من الضحايا مساهمة الإعلام في التعريف بها، وإن كان لا يعول كثيرا على الإعلام في هذا المجال لخطر وجوده أحيانا تحت تأثير عالم الأعمال بفعل ما يقدم لصالحه من اعلانات تجارية وغيرها من مظاهر تداخل المصالح.

كما لا يعول كثيرا على الرأي العام أمام إجرام معقد في إطار معاملات تجارية معقدة, بل قد يرى ضحيتها المنفرد في غياب جمعيات حماية المستهلكين منظمة وقوية أنه بدوره أخل بواجب الحذر والاحتياط، أو لا يستطيع مواجهة خصم قوي.

5- ملامح فئة خاصة من المجرمين:

لقد أشرنا سابق أنه كثيرا ما اهتم علم الإجرام التقليدي بمجرم فقير، مهمش، عاطل عن العمل.. يرتكب بعض جرائم الأموال خاصة سرقة أو نصب أو خيانة الأمانة، فيجد نفسه بسبب ذلك في السجن، إلى أن وجه الأستاذ sutherland الاهتمام إلى إجرام يرتكبه شخص له مكانة اجتماعية واقتصادية عليا، مما يطرح التساؤل عن عوامل إجرامه، وبالتالي فنحن أمام مجال جديد لعلم الإجرام، فما لا شك فيه أن العوامل الداخلية والخارجية لهذا النوع من المجرمين تختلف كثيرا عن عوامل إجرام المجرم التقليدي الفقير، ويمكن الإشارة إلى بعضها:

- الرغبة في الربح السريع واستغلال الفرص المتاحة: فالمجرم هنا يندفع إلى هذا الإجرام بالنظر لما يوفر له من مكاسب في إطار منافسة وطنية وأجنبية، فهو يخطط وينظم وينفذ إجرامه مع العمل ما أمكن على ضمان اخفائه واستمرار الاستفادة من مكاسبه المادية وغير المادية؛

- استغلال وضعية عدم المتابعة عن هذا الأجرام إلا استثناءا: وذلك لصعوبة اكتشافه أو التساهل الحاصل أحيانا في الجزاء المحكوم به في بعض القضايا؛

- استغلال التحولات الاجتماعية والاقتصادية لتعزيز مكانته في السوق: من ذلك ارتكاب جرائم من أجل الاستفادة من اعانات، أو صفقات عمومية, أو القيام بتصدير أو استيراد مواد مغشوشة أو مهربة استغلالا لظرفية اقتصادية صعبة؛

- تقليد مجرمين آخرين: إن الإجرام المربح الذي لا يتم اكتشافه يمكن أن تنتقل عدواه بسهولة في الوسط الاقتصادي في غياب أخلاقيات تمنع ذلك.

وبناء على ما سبق فنحن أمام إجرام ومجرم يختلف إلى حد كبير عن الإجرام التقليدي والمجرم التقليدي مما يطرح إشكالية الجزاء المناسب: فهذا المجرم لا يحتاج لتأهيل وإعادة الادماج بحكم وضعيته السوسيومهنية العالية، لكن إجرامه يهدد مصالح أساسية اقتصادية واجتماعية للدولة، وقد يؤثر على صناعة القرار داخلها بحكم تداخل المناطق الاقتصادية والسياسية في إطار تراجع تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية ودعمها لاقتصاد السوق وجلب الاستثمار الخاص الوطني والأجنبي. 

لتحميل محاضرات في مادة القانون الجنائي للأعمال المرجو الضغط علي: هنا

















إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال