عنوان العرض:
حدود التعاون الدولي في تحقيق العدالة الجنائية الدولية
مقدمة:
الجريمة أيا كانت تتمثل في عدوان على مصلحة يحميها القانون، ومتى وقعت جريمة دولية تنشأ للمجتمع الدولي الحق في معاقبة مرتكبيها، ولما كانت العقوبة من خصائصها الجوهرية أنها قضائية، فإنه من الضروري أن يلجأ المجتمع الدولي إلى وسيلة قضائية تمكنه من اقتضاء حقه في ملاحقة ومعاقبة مرتكبي الجريمة الدولية، عن طريق جهة قضائية دولية ينعقد لها الإختصاص.
إن قيام المحكمة الجنائية الدولية بممارسة الاختصاصات المحددة والمخولة لها من أجل محاكمة ومتابعة المجرمين المرتكبين لإحدى الجرائم الدولية الخطيرة التي ينص عليها النظام الأساسي الخاص بها، باعتبارها جهازا قضائيا دوليا يتطلب في المقام الأول إتمام اجراءات التحقيق وما يلزمها من سلطات التنفيذ المباشرة المكملة لحسن سير العمل في المحكمة الجنائية الدولية، وهو ما لا تملكه هذه الأخيرة لعدم وجود جهاز شرطة مستقل يعهد إليه مهمة القبض على المتهمين أو تفتيش المنازل أو استجواب الشهود، وعلى هذا الأساس وحتى تمارس المحكمة اختصاصها على أكمل وجه في هذا النطاق، فقد أجاز لها نظام روما الأساسي بموجب الباب التاسع منه أن تتعاون الدول في مجال التحقيقات والمحاكمة التي تختص المحكمة الجنائية الدولية بالنظر فيها وفق مجموعة من الإجراءات والأحكام والأشكال بهدف تيسير هذه العملية بإتاحة الفرصة لإجراء المشاورات بين المحكمة والسلطات الوطنية، قصد اتخاذ الخطوات اللازمة لمساعدة المحكمة على القيام بعملها.
أولا: أهمية الموضوع
تكتسي دراسة هذا الموضوع أهمية قصوى، كون الهدف أساسا في مجال حديثنا عن تعاون الدول مع المحكمة الجنائية الدولية هو تسهيل ممارستها لاختصاصها المنصوص عليه في النظام الأساسي، واعتباره من الوسائل الفعالة في سبيل تنفيذ أحكام المحكمة الجنائية الدولية، الذي يقوم أساسا على حق الدولة في الدفاع عن نفسها ضد الجرائم الدولية الخطيرة التي تنظر فيها.
ثانيا: إشكال الموضوع
تتمحور الإشكالية الرئيسة التي يعالجها هذا الموضوع في ما يلي: إلى أي حد استطاع القضاء الجنائي الدولي من خلال آليات التعاون الدولي تحقيق العدالة الجنائية الدولية؟
انطلاقا من إشكال أعلاه أطرح مجموعة من التساؤلات:
ماهي أوجه وأشكال التعاون بين الدول والمحكمة الجنائية الدولية؟ وما مدى إلزامية والتزام الدول بالتعاون معها في إطار نظام روما الأساسي، وفي ضوء الممارسة الدولية؟ وماهي حدود هذا التعاون؟
ثالثا: منهج البحث
سنعتمد في دراسة هذا الموضوع على المنهج الوصفي والتحليلي بغية الوقوف على مختلف المقاربات القانونية، المؤطرة للتعاون بين الدول والمحكمة الجنائية الدولية والمرصودة لتقديم مرتكبي أفضع الجرائم في العالم للمحكمة الدولية من أجل عدم إفلاتهم من العقاب .
رابعا: خطة البحث
لمقاربة هذا الموضوع ارتأيت تقسيمه إلى مطلبين أساسين على الشكل التالي:
المطلب الأول: مبدأ التعاون بين الدول والمحكمة الجنائية الدولية
المطلب الثاني: أشكال أخرى للتعاون بين الدول والمحكمة الجنائية الدولية وحدوده
المطلب الأول: مبدأ التعاون بين الدول والمحكمة الجنائية الدولية
يورد النظام الأساسي سلسلة من الالتزامات التي يتعين على الدول الأطراف أن تفي من خلالها بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، ويشمل النظام أحكاما تهدف إلى تيسير عملية التعاون بإتاحة الفرصة لإجراء المشاورات بين المحكمة والسلطات الوطنية، وفي العديد من الحالات سوف يتطلب الأمر توسيع هذا الإطار التشريعي للتعاون الدولي، بوضع تدابير وطنية أخرى بهذا الشأن بغية قيام المحكمة بدور فعال في القضاء على ظاهرة إفلات مرتكبي أفضع الجرائم في العالم من العقاب، لذلك فإن مبدأ التعاون مع المحكمة كما في حال المحكمتين الدوليتين ليوغسلافيا و رواندا هو تعاونا حيويا لضمان فعالية الإجراءات القضائية، فقرارات وأوامر وطلبات المحكمة الجنائية الدولية لا يمكن تنفيذها إلا من قبل السلطات الوطنية لأن المحكمة الدولية لا تملك أعوان وموظفين للتنفيذ، وعلى هذا الأساس فإنه من دون السلطات الوطنية للدول، فإن المحاكم الدولية لا يمكنها تنفيذ أوامر القبض ولا يمكنها جمع الأدلة المادية، ولا إلزام الشهود بأداء شهادتهم أو البحث عن الأماكن التي ارتكبت فيها الجرائم، لذا تلجأ المحكمة إلى سلطات الدول وتطلب منهم اتخاذ الخطوات اللازمة لمساعدة موظفي المحكمة والمحققين، وهذا ما سنوضحه من خلال فقرات هذا المطلب، من خلال الحديث عن التزام الدول بالتعاون، وكذا إلقاء القبض وتقديم المتهم للمحكمة.
الفقرة الأولى: الالتزام الأساسي بالتعاون
تعمل الدول مع المحكمة لتحقيق واجبها في التعاون من أجل الكشف والبحث عن الأشخاص المتهمين، وتقديم الأدلة وقبض واحتجاز الأشخاص وفي هذا الشأن جاء قرار مجلس الأمن رقم 978-27 فيفري 1995 ليطالب الدول بالتعاون مع المحكمة الدولية لرواندا، ويحثهم على القبض على الأشخاص الموجودين في أراضيهم إذا توفرت أدلة كافية تثبت مسؤوليتهم في ارتكاب أفعال تقع تحت طائلة الولاية القضائية للمحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا واحتجازهم بموجب قانونها الوطني ومعايير القانون الدولي ذات الصلة، تمهيدا لتقديمهم للمحاكمة أمام المحكمة المذكورة أو أمام السلطات الوطنية المناسبة.
وللتفصيل أكثر في الالتزام بالتعاون سنقوم بدراسته من خلال الحديث عن مدى التزام بالتعاون بين الدول الأطراف والدول الغير الأطراف مع المحكمة الجنائية الدولية.
أولا: مدى تعاون الدول الأطراف مع المحكمة الجنائية الدولية
تنص المادة 86 من نظام روما على أن الدول الأطراف تتعاون وفقا لأحكام هذا النظام الأساسي، تعاونا تاما مع المحكمة فيما تجريه في إطار اختصاص المحكمة من تحقيقات في الجرائم والمقاضاة عليها.
فالالتزام الدول بالتعاون نابع من قبولها لاختصاص المحكمة، حيث تتعهد بإجراء التغيرات اللازمة في تشريعاتها حتى تتوافق مع أحكام الباب التاسع من النظام الأساسي، لاسيما فبما يخص التجريم[3]، والواجب هذا ينطبق على جميع الهيئات القضائية الوطنية المختصة سواء كانت مدنية أو عسكرية بالالتزام بالتعاون الدول الأطراف مع المحكمة وامتثال لأوامرها وهذا ما أخدت به المادة 89 في الفقرة الأولى بقولها على الدول الأطراف أن تنفذ طلبات المحكمة ولا تعارضها.
ثم جاءت نفس المادة في فقرتها الرابعة من النظام الأساسي لتؤكد ضرورة إذعان الدول الأطراف لطلبات المحكمة ويفهم من نص هذه المادة أن الدول الأطراف في نظام روما لا تملك إلا الاذعان لطلبات التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية.
لذلك فالمحكمة الجنائية الدولية تتمتع بسلطة تقديم طلبات التعاون إلى الدول الأطراف عن طريق القنوات الدبلوماسية أو أي قناة أخرى تقوم الدول بتحديدها عند انضمامها للنظام الأساسي.
ولكن في حالة عدم امتثال دولة لقرارات المحكمة فإنه ليس من اختصاص المحكمة اتخاذ أي اجراء جبري حيال هذه الدولة ولكن عدم الامتثال قد يؤدي إلى الحيلولة دون ممارسة المحكمة لوظائفها وفي هذه الحالة فإن المحكمة تحيل المسألة إلى جمعية الدول الأطراف أو إلى مجلس الأمن إذا كان مجلس الأمن قد أحال المسألة للمحكمة، ولكن القوانين الوطنية قد أعطت للمحاكم الوطنية سلطة الزام المخاطبين بالقانون للاستجابة لطلبات المحكمة بالتعاون وهنا يجوز للمحكمة في حالة إعاقة سير إجراءات المحاكمة أن تصدر عقوبات في مواجهة من يعطل عملها وذلك بحسب نص المادة 71 في فقرتها الأولى من النظام الأساسي بل أن المحكمة أيضا لها سلطة القبض الاحتياطي كما جاء في المادة 92 من النظام الأساسي، حيث أن القوة الالزامية للمحكمة الجنائية الدولية تستمدها من ميثاق الأمم المتحدة وخاصة الفصل السابع من هذا الميثاق والذي يجيز لمجلس الأمن استخدامه عندما تقوم دولة ما بتهديد السلم والأمن الدوليين وتعاون الدول مع المحكمة هو تعاون محدود بالنظام الأساسي.
ثانيا: مدى تعاون الدول غير الأطراف مع المحكمة الجنائية الدولية
الدول غير الأطراف في نظام روما هي الدول التي وقعت على الاتفاقية دون أن تصادق عليها وكذلك الدول التي لم توقع ولم تصادق وقد دخلت الاتفاقية حيز النفاد في 1 يوليو 2002 وحتى فبراير2004 بلغ عدد الدول التي وقعت النظام الأساسي 139 دولة بينما الدول المصدقة والمنضمة 92 دولة والتوقيع يعد مؤشر على اتجاه نية الدول للتصديق على الاتفاقية، بينما يعتبر التصديق بمثابة قبول الدولة للاتفاقية والالتزامات الناشئة عنها فالدولة الموقعة تستطيع التصديق على الاتفاقية حتى تاريخ دخولها حيز النفاد أما الإجراء اللاحق لهذا التاريخ فيكون انضماما والدول غير الأطراف قد يبدو من المسمى أنها دول لا تلتزم بقرارات المحكمة أو ما يصدر عنها من طلبات ولكن ذلك مخالف للواقع لعدة اعتبارات:
-الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة هي جرائم الابادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية وجرائم العدوان وهي جرائم تم التنصيص عليها في اتفاقية جنيف لسنة 1949 وتلتزم بها كافة الدول الموقعة على الاتفاقية وتحترم الاتفاقية ولو كانت بعض الدول الموقعة على الاتفاقية ليست طرف في نظام روما الأساسي لإنشاء محكمة الجنايات الدولية سوف تحترم ما يصدر عن المحكمة من طلبات.
وإذا أحيل على مجلس الأمن أي حالة لارتكاب جريمة من الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة تكون قد وقعت وارتكبت في دولة ليست طرف في النظام فإنه في هذه الدولة أن تمتثل لطلبات المحكمة ومصدر الالتزام هنا هو قرار مجلس الأمن الذي أحال القضية والذي تحترمه كافة الدول.
ويمكن للدول غير الأطراف أن تعقد اتفاقيات للتعاون مع المحكمة وتمتثل لطلباتها وذلك كما جاء في النظام الأساسي، وفي حالة وجود أي تقصير في تنفيذ طلب المحكمة من جانب أي دولة طرف أو غير طرف أبرمت اتفاق خاص مع المحكمة فإن هذا التقصير يحال إلى جمعية الدول الأطراف أو إلى مجلس الأمن إذا كانت المسألة قد أحيلت عن طريق مجلس الأمن، كذلك يجوز لأي دولة غير طرف أن تقبل اختصاص المحكمة فيما يتعلق بالجرائم المنصوص عليها في المادة الخامسة من النظام الأساسي بموجب إعلان يودع لدى مسجل المحكمة بحسب النظام الأساسي، وفي هذه الحالة يكون على تلك الدولة أن تتعاون مع المحكمة تعاون تام بشأن التحقيقات التي تجريها، ومن ثم يصبح للأحكام الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية حجية كاملة أمام السلطات القضائية للدول غير الأطراف.
وعليه فالالتزام الدول غير الأطراف هو التزام لوجود مصلحة تخص جميع الدول لأن المحكمة انشئت بغرض معاقبة مرتكبي أشد الجرائم خطورة والتي تعاني منها دول العالم وأن امتثال لطلبات المحكمة يؤدي إلى حفظ الأمن والسلم الدوليين.
الفقرة الثانية: إلقاء القبض وتقديم المتهم للمحكمة
من المعلوم أنه لا يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تجري أية محاكمة غيابيا، فيجب أن يكون الشخص المشتبه به حاضرا جسديا في مقر المحكمة، ولذا فإن واجب الدول في التعاون مع المحكمة للقبض وتقديم المشتبه بهم، سواء كانوا من رعايا الدولة أم لا، يعد حيويا لقدرة المحكمة على العمل فيمكن للدائرة التمهيدية أن تصدر في أي وقت بعد الشروع في التحقيق وبناءا على طلب المدعي العام أمرا بالقبض على شخص إذا اقتنعت بعد فحص الطلب والأدلة والمعلومات الأخرى المقدمة من قبل المدعي العام في هذا الشأن بضرورة القبض على ذلك الشخص، وبناءا على الأمر بالقبض يجوز للمحكمة أن تطلب من دولة طرف القبض على الشخص احتياطيا أو القبض عليه وتقديمه للمحكمة بموجب الباب 9 من النظام الأساسي.
حيث نصت المادة 89 على أنه يجوز للمحكمة أن تقدم طلبا مشفوعا بالمواد المؤيدة للطلب المبينة في المادة 91 التي تحدد مضمون طلب القبض والتقديم، وذلك للقبض على الشخص وتقديمه إلى أي دولة قد يكون ذلك الشخص موجودا في إقليمها، وعلى الدولة أن تتلقى هذا الطلب أن تبدي تعاونها وأن تطلب كذلك التعاون من أجل القبض عليه، وتقديمه للمحكمة، وعلى الدول الأطراف امتثال لطلبات إلقاء القبض والتقديم وفقا للنظام الأساسي وقوانينها الوطنية، ويكون طلب القبض وتقديم الشخص مرفقا بالمواد المؤيدة للطلب، والتي تضم كقاعدة عامة: نسخة من أمر القبض، معلومات تصف الشخص المطلوب تكون كافية لتحديد هويته، ومعلومات عن المكان الذي يتحمل وجود الشخص فيه، وكذلك أي مستندات وبيانات أو معلومات يمكن أن تطلبها الدولة الموجه إليها الطلب. وعلى الدولة الطرف التي تتلقى طلبا بالقبض اتخاذ خطوات على الفور للقبض على الشخص المعني، وتقديمه فور إلقاء القبض عليه إلى السلطة القضائية المختصة لتلك الدولة.
وبالرجوع إلى النظام الأساسي فإنه يميز بين التقديم والذي يعني نقل دولة ما شخص إلى المحكمة، وبين التسليم الذي يعني نقل دولة ما شخصا إلى دولة أخرى بموجب معاهدة أو اتفاقية أو تشريع وطني، وفائدة هذا التمييز نجدها في أحكام النظام الأساسي والتي تهدف إلى جعل"التقديم" إلى المحكمة إجراء أقل تعقيدا من إجراءات "التسليم" بين الدول، ونجد في هذا الصدد أن المادة 91 الفقرة 2، (ج) تحت الدول الأطراف على إيجاد الوسائل اللازمة لتبسيط الإجراءات الوطنية الخاصة بتقديم الأشخاص للمحكمة، نظرا للطبيعة المتميزة للمحكمة.
ويثار في هذا الصدد إشكال في حالة تعدد الطلبات ونصت عليه المادة 90 حيث يمكن أن يرد للدولة المطلوب منها تقديم الشخص إلى المحكمة الجنائية الدولية، طلب أخر موازي من قبل دولة أخرى بتسليم ذلك الشخص، فما هي في هذه الحالة واجبات الدول الأطراف في مواجهة هذه الطلبات المتنافسة لتقديم وتسليم الشخص، حيث جاءت المادة 90 لتوضيح هذه الواجبات والتي تختلف بحسب ما إذا كان الطلب المنافس يخص نفس الجريمة التي من أجلها طلبت المحكمة تقديم ذلك الشخص، أو يخص جريمة مختلفة، ويختلف كذلك بحسب ما إذا كان الطلب المنافس مقدم من دولة طرف أو من قبل دولة غير طرف في النظام الأساسي. وعليه فإذا حدث وأن تلقت دولة طرف طلبا منافسا من قبل دولة أخرى لتسليم نفس الشخص بسبب السلوك ذاته الذي يشكل أساس الجريمة التي تطلب المحكمة من أجلها تقديم الشخص فعليها أن تخطر الدولة الطالبة بهذه الواقعة.
وقد نصت الفقرة الثانية من المادة 90 على إعطاء الأولوية للطلب المقدم من طرف المحكمة بشرط أن تكون الدولة الطالبة طرفا في النظام الأساسي وذلك بعدما تكون المحكمة قد قررت مقبولية الدعوى التي يطلب بشأنها تقديم الشخص، فإذا لم تتخذ المحكمة قرارها بشأن مقبولية الدعوى يمكن أن يصدر قرار المحكمة في هذا الشأن بصورة استعجالية باعتبار على أنها على علم بالطلب المنافس وفي انتظار اتخاذ المحكمة للقرار يجوز للدولة الموجه إليها الطلب أن تتناول طلب التسليم المقدم من الدولة، شرط أن لا تسلم الشخص قبل اتخاذ قرار بعدم المقبولية.
أما إذا كانت الدولة الطالبة دولة غير طرف في هذا النظام، كان على الدولة الموجه إليها الطلب أن تعطي الأولوية لطلب التقديم الموجه من المحكمة إذا كانت المحكمة قد قررت مقبولية الدعوى ولم تكن هذه الدولة مقيدة بالتزام دولي بتسليم الشخص إلى الدولة الطالبة.
المطلب الثاني: أشكال أخرى للتعاون بين الدول والمحكمة الجنائية الدولية وحدوده
سنتطرق في هذا العنصر إلى أشكال أخرى للتعاون بين الدول والمحكمة الجنائية الدولية في الفقرة الأولى، على أن نخصص الفقرة الثانية لحدود هذا التعاون.
الفقرة الأولى: أشكال أخرى للتعاون
تنص الفقرة الأولى من المادة 93 من النظام الأساسي بأن تساعد الدول الأطراف المحكمة بتحديد "موقع الأشياء" كما تلزم بالامتثال لأية طلبات للمساعدة في توفير السجلات والمستندات الرسمية، وهذه المادة جاءت منفصلة لعدة أشكال من التعاون في مجال التحقيق والمقاضاة، تحديد هوية ومكان وجود الأشخاص، استجواب الأشخاص، نقل الأشخاص، تنفيد أوامر التفتيش وحجز العائدات والممتلكات المتعلقة بالجرائم من أجل مصادرتها وكل تعاون من أجل تيسير وتسهيل أعمال التحقيق والمقاضاة التي تقوم بها المحكمة.
ويقدم طلب التعاون كتابة، ويجوز في الحالات العاجلة تقديم الطلب بأية واسطة من شأنها أن توصل وثيقة المكتوبة، شريطة تأكيد الطلب عن طريق القناة الدبلوماسية أو أية قناة أخرى مناسبة تحددها كل دولة طرف عند التصديق أو القبول أو الموافقة أو الانضمام، ويجب أن يتضمن الطلب الغرض من المساعدة، ومعلومات منفصلة عن الشخص المطلوب أو غير ذلك من المعلومات المنصوص عليها في المادة 96 في الفقرة الثانية، وفي حالة تلقي دولة طرف لطلبين لتنفيذ إحدى أشكال التعاون الواردة في المادة 93 من المحكمة ومن دولة أخرى، تقوم الدولة الطرف بالتشاور مع المحكمة والدولة الأخرى لتلبية كلا الطلبين بالقيام إذا اقتضى الأمر بتأجيل أحد الطلبين، أو تعليق الشروط على أي منهما، وفي حالة عدم حصول ذلك يسوي الأمر فيما يتعلق بالطلبين وفق نفس المبادئ الواردة في النظام الأساسي والمتعلق بحالة تعدد الطلبات لتقديم الشخص للمحكمة.
كما أن بعض طلبات التعاون يجب أن تنفد وفق إجراءات مستعجلة فنص المادة 99 في الفقرة الثانية يقضي في حالة الطلبات العاجلة، يمكن أن ترسل على وجه الاستعجال بناءا على طلبات المحكمة، المستندات والأدلة المقدمة تلبية لهذه الطلبات، فإنه يمكن للمدعي العام القيام بالتحقيقات اللازمة في إقليم دولة طرف دون حضور السلطات القضائية لهذه الدولة، إذا كان ذلك ضروريا لتنفيذ الطلب، وإجراء المعاينة لموقع عام أو أي مكان أخر.
وبصورة عامة إذا ما تلقت دولة طرف مشاكل تعوق أو تمنع تنفيذ طلب التعاون، فعلى تلك الدولة أن تتشاور مع المحكمة من أجل تسوية المسألة.
أما في حالة ما إذا قررت الدائرة التمهيدية وبعد مراعاة أراء الدولة المعنية، أنه من غير الواضح أن الدولة غير قادرة على تنفيذ طلب التعاون بسبب عدم وجود أي سلطة أو أي عنصر من عناصر نظامها القضائي يمكن أن يكون قادرا على تنفيذ طلب التعاون بموجب الباب 9، فإنها يمكن أن تأذن للمدعي العام باتخاذ خطوات تحقيق محددة داخل إقليم دولة طرف دون أن يكون قد ضمن تعاون تلك الدولة بموجب الباب 9، رغم أن النظام الأساسي يكفل للمحكمة أشكال عديدة للتعاون.
الفقرة الثانية: حدود تعاون الدول مع المحكمة الجنائية الدولية
أولا: وجود مانع تشريعي
وهنا الأمر يختلف بالاختلاف أشكال التعاون المحدودة في النظام الأساسي أي بين حالة طلب القبض والتقديم للمحكمة وبين الأشكال الأخرى للتعاون المحددة بموجب المادة 93، كأن تمنع الدول الأطراف بواسطة تشريعاتها الوطنية تسليم رعياها للسلطات الأجنبية ففي هذه الحالة فإن النظام الأساسي لا يعترف بإمكانية رفض تقديم الشخص للمحكمة على أساس جنسيته، فالتدابير التشريعية أو الدستورية التي تعتمدها الدول وتهدف منع تسليم رعاياهم لا تنطبق على المحكمة، أما الأشكال الأخرى للتعاون، فمثلا نجد المادة 93/03 تضع بعض الحدود للتعاون، إذا كان هناك مانع تشريعي يمنع تنفيذ أي تدبير خاص بالمساعدة، والحل الذي يقترحه النظام الأساسي هنا هو قيام الدولة الموجه إليها الطلب بالتشاور مع المحكمة على الفور بمحاولة إيجاد حل لهذه المسألة عن طريق إمكانية تقديم المساعدة بطريقة أخرى، أو تقديم المساعدة بشروط، وإذا تعذر التوصل لحل للمسألة كان على المحكمة أن تعدل من الطلب عند الاقتضاء.
ثانيا: رفض التعاون لأسباب تتعلق بالأمن الوطني
يمكن للدولة أن ترفض الاستجابة لطلب مساعدة المقدم إليها من طرف المحكمة، إذا رأت أن ذلك من شأنه المساس بأمنها الوطني وهذا ما كرسته المادة 93/04 بقولها" لا يجوز للدولة الطرف أن ترفض طلب مساعدة، كليا أو جزئيا، إلا إذا كان يتعلق بتقديم أية وثائق، تكشف أية أدلة تتصل بأمنها الوطني وذلك وفقا للمادة72"
ثالثا: رفض التعاون بسبب التزامات اتجاه دولة ثالثة
تتعلق هذه الحالة بحصانات الدولة أو الحصانات الدبلوماسية حيث نصت المادة 98 على مايلي:
-لا يجوز للمحكمة أن توجه طلب تقديم أو مساعدة يقتضي من الدولة الموجه إليها الطلب أن تتصرف على نحو يتنافى مع التزاماتها بموجب القانون الدولي فيما يتعلق بحصانات الدول أو الحصانة الدبلوماسية لشخص أو ممتلكات تابعة لدولة ثالثة، ما لم تستطع المحكمة أن تحصل أولا على تعاون تلك الدولة الثالثة من أجل التنازل على الحصانة.
- لا يجوز للمحكمة أن توجه طلب تقديم يتطلب من الدولة الموجه إليها الطلب أن تتصرف على نحو يتنافى مع إلتزماتها بموجب اتفاقيات دولية تقتضي موافقة الدولة المرسلة كشرط لتقديم شخص تابع لتلك الدولة إلى المحكمة، ما لم يكن بوسع المحكمة أن تحصل أولا على تعاون الدولة المرسلة لإعطاء موافقتها على التقديم." فهذه المادة تعد استثناءا لالتزام الدول للتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية.
رابعا: رفض التعاون بسبب وثائق أو معلومات تتعلق بطرف ثالث
يضم النظام الأساسي بالإضافة لإمكانية عدم التعاون لأسباب تتعلق بالأمن الوطني، إمكانية أخرى لعدم التعاون تخص تقديم وثائق ذات طبيعة سرية تخص طرف ثالث تنص عليها المادة 73 من النظام الأساسي، ويعتبر هذا الاستثناء بمثابة ضمانة للدول الأطراف، لعدم كشف وثائق أو معلومات سرية تخص طرف ثالث.
خاتمة:
إن إنشاء المحكمة الجنائية الدائمة في نهاية القرن العشرين ودخولها حيز التنفيذ في بداية القرن الواحد والعشرين يعد بمثابة حدث مهم مر به المجتمع الدولي في السنوات الأخيرة ، وبالرجوع إلى النظام الأساسي للمحكمة ومن خلال آلية التعاون بين الدول والمحكمة الجنائية الدولية نستطيع الخروج بنتيجة مهمة مفادها أن هذا النظام يتسم إلى حد كبير بالواقعية والتوازن بين مصلحة المجتمع الدولي من جهة وبين مصلحة المجتمع الوطني من جهة أخرى، كما أن المحكمة لن تتحرك ضد الدول وإنما معها من خلال تعاون تلك الدولة حتى لا يتم المساس بسيادتها.
ومن ثم يجب على الدول أن تبادر بالمصادقة على النظام الأساسي للمحكمة، حتى تمارس اختصاصها بصورة فعالة نحو معاقبة الأشخاص المسؤولين عن ارتكاب أخطر الجرائم ضد الإنسانية.
لائحة المراجع
-لائحة الكتب
- سلوى الأكيابي، اجراءات القبض والتقديم، دار النهضة العربية، القاهرة، 2011.- زينب محمد عبد السلام، إجراءات القبض والتحقيق والتقديم أمام المحكمة الجنائية الدولية، الطبعة الأولى، المركز القومي للإصدارات القانونية، 2014
- محمود شريف بسيوني، المحكمة الجنائية الدولية، مدخل لدراسة أحكام وآليات الانفاد الوطني للنظام الأساسي، طبعة دار الشروق، بدون سنة الطبعس.
-عبدالحميد زروال، المحاكمات الشهيرة في التاريخ، الطبعة الأولى دار الأمل، 1999.- القاضي فريد الزغبي، الموسوعة الجنائية، المجلد السابع، الحقوق الجزائية العامة، القانون الدولي الجنائي، الطبعة الثالتة، دار الصادر، بيروت.
- لائحة الرسائل والأطروحات
- علاي محمد، اجراءات التقاضي أمام المحكمة الجنائية الدولية، مذكرة لنيل شهادة الماجستير في العلوم الجنائية وعلم الاجرام، جامعة أبو بكر بلقايد، تلمسان، السنة الجامعية 2004-2005.